"إجتني" الدورة

"إجتني" الدورة

كنتُ في بداية سنّ البلوغ، نادتني جدتي وأخبرتني التالي: "اذا شفتي بقعه أو بقعتين دمّ على تيابك الداخليّة شي يوم، لا تخافي، تعالي خبريني فوراً وبقلك شو تعملي. هاد شي بصير مع النساء ومعناها بلشتي تصيري صبيّة وهوّ شي منيح. كلّ النساء بصير معهم هيك".

لم أفهم كثيراً لكنّ أعجبني أنّ هناكَ حدثاً ما سيحصل ويصبح دليلاً على أنني كبرت و"صرت صبيّة". وثيقة لن يتمكّن أحد من خلالها من أن ينعتني بطفلة! في الواقع توسّعت حدقاتي لسماع ذلك، وبتُّ أزور الحمّام أكثر من المعتاد في انتظار هذه اللحظة الحاسمة.

عندما حدثتني جدتي عن الموضوع تخيلتُ أنّ الأمر سيحدث لمرّةٍ واحدة، "أصبح من بعدها صبيّة" وانتهى. لم أتخيّل كمّ المتاعب التي ستأتي معه.

انتظرتُ ستّة أشهرٍ على الأقل حتّى أتت تلك اللحظه المنتظرة. إجتني الدورة!

خرجتُ من الحمام أصرخ وأهلل كأرخميدس، طلبت منّي مربيتي الهدوء وعلّمتني استخدام الفوطة النسائيَة وبدا لي بأنّ الموضوع ليسَ مناسبة للإحتفال كما ظننت. كانت مربيتي تتعامل مع الأمر بالكثير من الجديّة.

في هذه المرحلة تعرّفت على "الكيس الأسود"، وهو كيس صغير أضع فيه الفوطة قبل رميها مع باقي النفايات. سألتُ، لماذا؟ ونحنُ نرمي في سلّة الحمّام ما هبّ ودبّ؟ شرحت لي مربيتي بأنّه من غير المحبّذ أن أرميها كما هي في السلّة فهذا أمرٌ نسائيّ فقط لا يحدثُ مع الذكور وبالتالي يجب أخفاؤه.

سلّمتُ في الأمر إذ أنّهُ لم يكن الموضوع الأهمّ بالنسبة لي حينها.

كان استخدام الفوط النسائيّة مسلياً في البداية، وفهمتُ أخيراً كلّ تلك الإعلانات التلفزيونيّة التي لم أفهمها يوماً. شعرتُ بأنني إنضممتُ إلى مجموعة الكبار.

في اليوم التالي، ذهبتُ إلى المدرسة وحملتُ معي فوطة نسائيّةً. كنتُ في الصفّ الخامس، وكنتُ في حينها أجلسُ في المقعد الأخير قرب النافذة، ويجلسُ إلى يميني، أحمد، طفلُ شقيّ جدّاً رسبَ عامين متتاليين لذا كان يكبرني بعامين، وتجلسُ إلى يساري ربا التي تكبرني بعام.

كنتُ أرغبُ بإخبار كلّ من في المدرسة بأنني "أصبحت صبيّة" ولكنني كنتُ أيضاً أشعر ببعض الخجل.

أخبرتُ ربا في الفرصة عن الأمر وقالت أنّها مرّت به سابقاً وأنها لا تحبّه. أستغربت. أخبرتها بأنني أحملُ فوطة نسائيّةً معي في الحقيبة وأنني لا أعلمُ إن كان مسموحاً لي إصطحابها الى المدرسة. نصحتني بأن أخفيها جيّداً.

عدتُ من الفرصة لأجد أحمد يمسكها بيدهِ ملوّحاً بها في الصف ويسأل لمن تكون هذه الفوطة النسائيّة. خفت، خفت، خفت! وصمتُّ. خشيتُ أن أعاقب لأنني أحملها معي، خشيتُ أن يسألني الجميع عنها، وقرفتُ من أن أستخدمها بعد أن وضعَ يدهُ عليها.

حاولت أن أهدّئ من روعي، قلتُ لن يعرف أحد أنّها لي، إن سألوا سأقول بأنني لا أعلم لمن تكون، ثمّ تذكرتُ أن ربا تعرف وأنها ربما تعترفُ عليّ وأنني سأعاقب. لا أعرف من أينَ انتابني هذا الشعور بالخوف وبالذنب.

ركضتُ تجاه أحمد، سحبتها منهُ، وقمت برميها من النافذة. استنكرَ ذلك وسألني إن كانت هذه الفوطة لي، قلت كلّا لكنني قرفتُ منها ولا أريدُ له أن يقع في مشكلة مع إدارة المدرّسة وأنني أصلاً لا أعرفُ لماذا تستخدم لكنني أرى إعلاناتها على التلفاز.

ضحكَ وأكّد لي أنّهُ لن يخبرَ أحداً. كانت المرّة الأولى التي يكون فيها أحمد متعاوناً، لا أعلم لليوم ما الذي دفعهُ للتعاون يومها.

لم أفهم لماذا يجب أن يبقى الموضوع سرياً، ، وقارنتهُ مباشرةً مع فكرة الذهاب إلى الحمّام. نحنُ لا نخجل بأن نعترف بأننا نذهبُ إلى الحمام لقضاء الحاجة، ما الفرق هنا؟ وما هي أهمية امتلاكي لصكّ أنني صرت صبيّةً إن لم أستطع أن أشاركهُ مع أحد؟ لم أفهم.

كان أصعبُ شيءٍ إخفاء الأمر عن أخي الذي نشارك بعضنا كل تفاصيل حياتنا. سألني مرّةً إن كانت "إجتني الدورة" نفيتُ الموضوع وتصرّفتُ على أنني لا أعلم عمّا يتحدّث.

مضى الشهر الأوّل على خير. وظننتُ بأنّ الأمر قد قضيَ. تخرّجتُ من الطفولة إلى الشباب.

بعد شهرٍ تقريباً، خرجتُ من الحمام مسرعةً وأخبرت جدّتي أنّ الأمر بدأ يحدث مرّة ثانية! كنت أشعرُ بالخوف وبأنني على الأرجح قد قمت بخطأ ما في المرة السابقة حتى حصل ذلك معي مرة أخرى. كنتُ أعتقدُ بأنّ الأمر مجرّد إمتحان يجب أن أجتازهُ لأصبح صبية، لم أتخيّل أبداً أنّ الأمر سيكون دورياُّ. 

ضحكت جدّتي ضحكتها المعتادة على براءتي. استفزني ضحكها وأنا أشعرُ بالرعب. فسرت لي أنّ الدورة هي حدثٌ شهريّ وسيحدث كلّ شهرٍ، وأنّ الأمر غير مرتبط بأيّ شيء خاص فعلته أو لم أفعله!

وهنا كانت الصدمة الحقيقية. كلّ شهر؟ مدى الحياة؟ وكمن سمعَ خبراً أثقل كاهله. تخيلتُ أنني الآن سجينة هذه العادة التي ستلازمني مدى الحياة. تذكرتُ كيف كانت حياتي قبل عدّة أشهر أجمل وأكثر حريّة وسعادة، لم أكن أحمل سرّاً ولم أكن مضطرّة أن أخفي شيئاً.

كرهتُ نفسي وكرهتُ أنوثتي وكرهتُ أخي وكلّ الذكور.

لم أتصالح يوماً مع الدورة الشهريّة، مع المزاج السيء الذي تجلبهُ، مع ذلك الكائن العجيب من الهرمونات الذي يحتلَ لوح القيادة داخل رأسي ويتحكّم به وبمزاجي وبمشاعري وبعلاقاتي الإنسانية. أتخيّل شكله كالشبح، لونه رماديّ، وأسنانه بيضاء، شكلها غريب، صغيرة جدّاً، حادة جدّاً وجاهزة للإنقضاض على أيّ شيء يقومُ بحركةٍ غير متوقعه. أُصبح مع وجود هذا الكائن أكثر تعقيداً، وأفقد القدرة على فهم نفسي. أشتهي الشيء ونقيضه معاً، أشعرُ بأنّ قنبلةً موقوتةً قد زرعت في مكان ما داخل رأسي، وبأنني لا أستطيع معرفة أينَ ومتى وكيفَ ستنفجر، ويا ليتها تنفجر. فهي لا تنفجر، بل تتركني معلّقةً وقلقةً. خيوط معقدة ودوائر سوداء وبيضاء ومربعاتٌ غير متساوية الحجم تدور في رأسي، وحبالٌ معلّقة تُحرّك جسدي.

عندما أشارك هذه الأحاسيس، تُختصر وبإستخفاف بالـ "هرمونات". نعم، إنها الهرمونات التي تلازمني كل شهر لمدّة عشرة أيّام، تذكرني بفايروسٍ دخلَ الكومبيوتر، يتحكّم مرّات، لا يتحكّم مرّات، يظهر ويختفي، أشياء غريبة تحصل على الشاشة المربعة، وأشياء أعقد تحصلُ داخل رأسي.

وفي خضمّ كلّ هذا الضجيج الهرمونيّ، تأتي الآلام الجسديّة غير المنتظمة بدورها، لتدغدغ الهرمونات بإيقاعٍ منتظم جدّاً. فما أن تبدأ القنبلة الهرمونيّة بالهدوء حتّى تبدأ رحلة الآلام الجسديّة التي تعلّق الروح كلّها في مكانٍ واحدٍ يئنّ نزفاً داخليّاً.

سمعتُ مرّة في أحد البرامجَ بأنّ النساء أكثر قدرة على تخبئة جرائمهنّ، لا أعرف مدى دقّة هذه المعلومة، لكنني لم أستغربها. فنحنُ نتعلّم جيّداً التعامل مع الدماء والمساحيق الأفضل وحرارة المياه الأفضل والألوان التي تتماهى ولا تتماهى مع الدماء. نتعرّف على هذه الحيل بعمرٍ صغير ونطوّرها مع الوقت.

نتعلّم التعامل مع جريمةٍ تحصلُ في داخلنا، نتعلّم إخفاء نزيفها اليوميّ، وإخفاء عوارضها، نتعلّم تنظيفها، ونتعلّم تجاهلها. نفعل كل هذا ونحن مرغمات أحياناً على المحافظة على ابتسامتنا الصفراء الكاذبة والتعامل بإيجابية مفتعلة مع الحياة.

 

مدوّنة سورية